سلفـــــي في المعتقــــــل
كان أسبوعا مليئا بالمتاعب
مذاكرة وأرق..وهذا هو حال البكالوريوس دائما
قلبت صفحة الاسبوع المنصرم بما حملته من متاعب ومن أفراح
بالنسبة إلي
كان أكثر الاحداث تأثيرا هو ذاك الشيخ
الوقور
حينما اقتربت من موضع الامتحان
سيارتين ممتلئتين بالجنود المدججين بالأسلحة....وضابطين.أحدهما برتبة مقدم والآخر برتبة نقيب..يتضح من لبس النقيب أنه من أمن الدولة..
دار بخلدي في هذه اللحظة توقعات حدثت بالفعل بعد لحظات
فها هو شيخنا ..أبو عبد الرحمن
ذو اللحية السوداء..والجلباب الابيض الغير مسبل..والعمامة البيضاء...
قصير الطول..نحيف الجسم ..
ها هو ينزل..ليملأ فناء كلية الطب...بنور وجهه.الذي لو رأيته لذكرت المولى -سبحانه-
رأيته يتحرك بتوأدة ووقار...شامخا رأسه بعزة المسلم..مبتسماً..كعادته دائما..في يده اليسر القيود وفي الناحية الاخر من القيود (الكلابشات)
صول من سجن أبي زعبل تقول ملامحه أنه ابن اثامنة والثلاثين أو من هذا قريب..
ما إن رأيته حتى انطلقت لأسلم عليه..سلمت عليه بيدي فقط..-ظنا مني أن الضباط سيمنعونني- لكن لما رأيت أن الله -سبحانه- يسر الأمر تحدثت معه..وطلب مني أن أتصل بالاخوة ليحضروا له كتبه الشرعية
سبحان الله يا ابا عبد الرحمن ...في مثل هذا الموقف...؟؟؟!!! قلتها لنفسي
لم يكن معي الهاتف النقال..رأيت أحد الاخوة الملتحين..قلت لنفسي سآخذ هاتفه شاء أم أبى....فهذا حق الأخوة
اتصلت بالاخوة ..ايقظتهم من النوم..غصبا عنهم...فرحوا جميعا..أعدوا انفسهم وأتوا....وما أن بدأت لجنة الامتحان الشفوي
حتى كان بجوار باب رئيس القسم كتيبة من أصحاب اللحى والثياب القصيرة-او إن كنت جاهلا..فقل متطرفين أو إرهابيين أو متشددين-
كعادتي..لا احب ان اكون القائد في مثل هذه المواقف..رغم انني لا اهابها..خاصة بعد تردد اسم اخيكم بين أروقة المخابرات ..
لم يتقدم بالقرب من غرفة رئيس القسم سوى اثنين من زملائنا الاخوة معنا في الفرقة السادسة
وانتظر البقية في الخلف كل يمسك بيده كتابا او كراسا او اي شئ..حتى لا يشعر الامن بهذا التجمهر ...فيمنع الشيخ من الالتقاء بتلاميذه
بدأت -كعادتي - أمازح الاخوة...قلت لهم: احنا نمتحن في اي أوضة يرمونا فيها زي عامة الشعب..
إنما الشيخ يمتحنوه في أوضة رئيس القسم الوثيرة المقاعد ..المكيفة الهواء
فعلا الناس مقامات
واللي ليه واسطة :)
البعض كان يتجاوب معي ويبتسم...من قلبه...والبعض كان يبتسم صدقة في وجه اخيه..والبعض كان مهموما من الموقف فلا يعير انتباها للكلام
وفجأة خرج من الغرفة رئيس القسم ومعه نقيب شرطة ..كلاهما يبتسم وقالا..: اتفضلوا..اللي عايز يسلم على الشيخ يتفضل جوه في الغرفة
كدنا نطير من الفرح...
قلت لنفسي سأتأخر قليلا حتى انظر اليه اكبر فترة ممكنة قبل ان اسلم عليه
دخلت الغرفة ...في الطابور الطويل لاسلم على الشيخ (السلفي)
احتضنته بشدة..وعيناي تتفحصان الضباط الجالسين ..وهم يبتسمون..ويبدو من ملامحهم أنهم ليسوا كمن نسمع عنهم أو نراهم..وشعرت في نفسي
أنه ما زال هناك من ضباط الشرطة من يعرف الحق حقا...ويعرف الباطل باطلا...
قرأت هذا في عين المقدم الذي كان يجلس أمام عيناي..وكأنه يقول لي..: نحن نعرف انكم لستم خطرا على امن الدولة ..وأنكم مصلحون..وأنكم تحبون الله ورسوله..
ونحن كذلك....إلا إن الله أراد أمراً لن نستطع تغييره
احتضنت الشيخ وخرجت من الغرفة
لم أبكي يوم مات والدي...برغم الحزن الشديد الذي كان في قلبي
وما أن خرجت من الغرفة إلا ووجدتني أشعر برغبة في البكاء وأن الدموع قد تنهمر في أي لحظة..
انحدرت منعطفا في إحدى الجنبات ..تمالكت نفسي
ونظرت إلى محمود لأجده مغتما بشدة مع طيبته ورقته ...ولم يكن مصطفى بأحسن حالا منه...فعينيه ستخرج منهما الدمعتان في اللحظة...حاول تصويره لكنه فشل
ومحمد كان سعيداً جدا ومبتسما..وابن أحمد..لم أستطع تحديد موقفه...وقال لي اكتب اليوم تدوينة عنه
انتظرت أن يأتي رضا...فلم يأتي
كان هيثم هو الآخر مبتسما...وممدوح اختلطت مشاعر الحزن بالفرح في عينيه...حتى حسين زميلنا الصعيدي...الذي يدخن بشدة ...ومع كونه ليس من طلاب العلم
الا انه اصر على الانتظار والدخول للتسليم على الشيخ وتقبيله ..والطلاب من الفرقة الخامسة وغيرها كانوا يأتون زرافات ووحداناً
انتهى الموعد وسرنا كلنا خلف الشيخ ابي عبد الرحمن حتى باب السيارة التويوتا الزرقاء ...ذات الرخصة المطبوع عليها اسم الشرطة
كان يوما طيبا...شعرت بانفعالات الاخوة جميعا وحقا هو كما قال النبي-ص-
(إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)
عدت لبيتي وأنا أتفكر...
الشيخ -الذي لم يناهز الرابعة والعشرين من عمره بعد- في المعتقل زهاء ستة أشهر
هو زميلنا..ويصغرني سناً...إلا أنني ما ناديته أبدا باسمه
فهو الذي تعلمنا من دروسه علم العقيدة.....وكانت بدايات معرفتنا بالمنهج السلفي الحق على يديه
رغم صغر سنه...
ذكرني بالشيخ ياسر برهامي..الذي ألف كتاب (منة الرحمن) وهو في السنة الرابعة من كلية الطب
الشيخ أبي عبد الرحمن ..نتاج تربية وتعليم لاساتذة المنج السلفي في الاسكندرية... رغم ان لقاءاته بهم قليلة الا انه نهل من كتبهم واشرطتهم العلم الكثير
يتكلم في الامور الجسام التي يخشى الكبار الكلام فيها
يتكلم عن الرزقاوي ..وعن ابن لادن(ليس تهورا..ولكن يقول اعتقادنا فيهم وانهم اخوة لنا وان كانوا قد أخطأوا في مسائل..وبهذا قال ايضا الشيخ محمد بن عبد المقصود والشيخ ياسر برهامي وغيرهما) يتكلم عن التفجيرات التي حدثت في امريكا..يتحدث عن مسائل التترس...عن الحكم بغير ما انزل الله...يعلمنا التوحيد واقسامه....ادب الخلاف والرد على المخالف ..الرقائق والزهد..والكثير الكثير رغم صغر سنه
لو جلست معه ما مللت منه...
سبحان الله..كدت اقول لنفسي ..كما قال بشر الحافي -رضي الله عنه- لما دل الامام احمد السجن في محنة خلق القرآن..فكان بشر يبكي ويقول : (بئست هاتين اليدين إذ لم تكونا مع أحمد في القيود) ...
لا تمنيا للمصيبة..ولكن..رغبة في البقاء مع الصالحين ومحاولة افتداء اهل العلم حاملي مشاعل الهدى والنور
كل ذنب أبا عبد الرحمن أن سلفي..على الجادة-نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله والله حسيبه-
كل ذنبه انه يقول : قال الله..قال رسول الله..قال الصحابة والتابعون
شعاره شعار ابن القيم رحمه الله :
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة..ليس بالتمويهِ
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ..بين الرسول وبين رأي فقيهِ
هو الان في المعتقل..يصلي..او يقرأ القرآن..ربما يتصفح كتب ابن تيمية..أو كتات السنة لإمام احمد...من الممكن أن يكون في سجوده الآن..
أو يقرأ عن ضلالات الشيعة وكفرياتهم او عن الصوفية وخرافاتهم
او انه يستذكر مادة الجراحة أو يتصفح المغني لابن قدامة ...أو يقرأ لابن المديني ..أو يحفظ البخاري ومسلم
أو..أو...
إنه لشرف له أن يكون سجنه في سبيل منهج حق..منهج اهل السنة والجماعة وبفهم السلف الصالح..
فليحمد ربه على ذلك
فهنالك من يسجنون بسبب السياسة ويوم القيامة قد يجدون ما فعلوه هباءا منثورا
وهنالك من سجن بسبب ذنب ارتكبه من قتل او سرقة او رشوة..
وهنالك من سجن لاجل ترسيخ مبادئ الليبرالية اوالشيوعية
ثم هم يوم القيامة من المحضرين
عزاؤنا..ما رواه البخاري من حديث عائشة-رضي الله عنها-
أن ورقة بن نوفل-رضي الله عنه- قال للنبي-ص-:
(ما أتى رجل بمثل ما جئت به إلا عودي)
وحسبنا الله ونعم الوكيل